
… كتبت منار عبدالعزيز
وقع حادث “فتيات العنب” الجمعة الماضية، يوم عطلة رسمية للدولة، حيث لاقت 18 فتاة والسائق مصرعهن/م، جميعهن من قرية كفر السنابسة التابعة لمركز منوف، في حادث سير أثناء توجههنّ إلى عملهنّ بإحدى حقول العنب مقابل أجر يومي قدره 180 جنيهًا.
“مش فاكرة عملنا الحادثة إزاي، بس سمعت صوت الناس تصرخ جنبي.. آيات وسمر وأسماء وآية، بنات عمتي كلهن ماتوا، وفاضل آيات ربنا يشفيها في العناية المركزة”
شهادة حبيبة إحدى الناجيات من الحادث
تأتي هذه الواقعة ضمن ما يزيد عن 25 حادث خلال العام الجاري فقط، وتمثل حوادث العمالة الزراعية خلال ما يزيد عن العشر سنوات الماضية بنسبة وفاة 84.93% ، ونسبة إصابة 77.9% من إجمالي ضحايا الحوادث بصفة عامة خلال هذه الفترة، لفتيات وشباب لا يتجاوز أغلبهنّ/م العشرين عامًا، يخرجنّ/وا للعمل في ظروف لا إنسانية، فينتهي بهنّ/م المطاف في نعوش خشبية. فنحن نشاهد نسخة مكررة من حوادث سابقة، تتعدد فيها وجوه الضحايا بينما تظل منظومة العمل ذاتها بدون تغيير أو حتى تحسين طفيف من منطلق استيعاب تردي الأوضاع.
العمالة غير المنتظمة ومنظومة استغلال لا يعبأ بها القانون
عملت “فتيات العنب” في القطاع غير الرسمي، أو يُسمى أيضًا بالعمالة غير المنتظمة، حيث تشغل تلك المساحة الرمادية أكثر من 40% من القوى العاملة في مصر، بحسب تقديرات البنك الدولي، (تبلغ نسبة النساء 44.7%، و47.3% من الرجال)، مما يعد أن هذا القطاع عمود هام في الاقتصاد، يقوم على تشغيل الفئات الأكثر فقرًا، والأقل تعليمًا، والأكثر هشاشة. في المقابل، فلا يوجد تنظيم لهذه العمالة، فهي لا تضمن عقود أو تأمينات أو ضمانات حماية أو أية حقوق واضحة، وبلا حد أدنى من الأجور أو السلامة المهنية. مما يجعل مأساة “فتيات العِنب” هو أن ظروف عملهنّ ليست استثناءً، بل نمطًا متكررًا، فبالتزامن مع إصدار قانون العمل الموحد لا زالت الدولة لا تقدم تنظيمًا للعمل في القطاع غير الرسمي، لكنها تبقي على بنية تسمح بتغذية المصانع والقطاع الخاص بأيدي عمالة رخيصة ومن دون أعباء تنظيمية.
الهامش الجغرافي والسياسي: حين تُعزَّز المركزية بالموت
يطرح هذا الحادث أزمة ترتبط برؤية الدولة لأولوياتها للمنظور المكاني والتنمية المتمركزة حول العاصمة والمدن الجديدة، ومن ضمنها العاصمة الإدارية الجديدة، فتعكس تمييزًا جغرافيًا قصديًا ومن شأنه أن يسهم في إعادة إنتاج الطبقة جغرافيًا، حيث يُترك الهامش في مواجهة الموت العشوائي. فبينما يتم تأهيل وتطوير الطرق وشبكات النقل لتخدم شوارع القاهرة الكبرى والمدن الجديدة، فتعاني الطرق التي تربط القرى والمراكز من إهمال واضح: سوء تخطيط، وغياب الإنارة، وتهالك البنية التحتية، وغياب الرقابة المرورية.
وقع الحادث على طريق المنوفية الدائري الإقليمي – وهو أحد المشروعات القومية الكبرى الذي تم افتتاحه رسميًا منذ حوالي ثماني سنوات – ويُفترض أن يكون نموذجًا لتوجه الدولة نحو خطتها في ربط محافظات الدلتا والوجه القبلي بالقاهرة. بيد أنه في خلال عام تقريبًا من تشغيله، أُغلِق الطريق جزئيًا إثر ظهور عيوب إنشائية على امتداد مساراته، وأعلنت الحكومة بأن الإصلاحات ستستغرق عامين بتكلفة أكثر من مليار جنيه، ما يعادل تكلفة إنشاء طريق جديد في بعض الحالات. والجدير بالذكر، أن هذا النمط من المشروعات، في ضوء ما تعرضه علينا التصريحات والمؤتمرات الرسمية، يتم بضغط التكلفة وتسريع التنفيذ وتكليف مباشر دون مناقصات معلنة أو مساءلة واضحة.
“كان كل كرسي عليه خمس بنات، أربعة قاعدين والخامسة على رجل إحداهن، والكرسي اللي جنب السواق كان قاعد فيه 3 بنات، وكل يوم بنركب 22 أو 23 واحدة في العربية”
شهادة حبيبة إحدى الناجيات من الحادث
يعبر هذا المشهد عن الواقع اليومي المعتاد لنقل العاملات الزراعيات، حيث تتنقلّنّ إلى الحقول والمصانع في مركبات متهالكة أو تحتاج إلى صيانة أو يتم تعبئتهنّ في العربات بهذا التكدس، وذلك دون أن يوقفها حاجز أمني أو لجنة مرورية، في منظومة مرور تهتم بالأساس في متابعة المخالفات على الطرق وجمع رسومها. كذلك، تعمل هذه الفتيات بدون أية ضمانات أو إلزم رسمي لصاحب العمل بتوفير مواصلات آدمية، ولم تتوجه الدولة بأية إجراءات ي قانون العمل الجديد بأية ضمانات أو التزامات على عاتق أصحاب العمل بالرغم من سيل الحوادث الذي لا يتوقف.
كذلك، وفي ضوء ذلك الحادث وما سبقه وما سيليه، مع الأسف، لم يُفتح تحقيق واحد حتى الآن حول أسباب إنهيار هذا الطريق، على سبيل المثال، أو السؤال عن مسؤولية إهدار المال العام، أو عن الجهات الرقابية المعنية بمتابعة التنفيذ. وبينما تكتفي الحكومة، في أفضل الأحوال، بتقديم النعي وصرف التعويضات لأسر الضحايا، لا نجد بيانًا يتسم بالشفافية يوضح مجريات الأمور ويشرح لنا ما يحدث، والتدابير التي ستتخذها الدولة بشأن منظومة الطرق والمواصلات وكذلك بخصوص أوضاع العمالة غير الرسمية وضمانات الحفاظ على أرواحهن على أقل تقدير.
النساء في المجال الخاص وانسحاب الدولة من واجباتها
“لو بأيدي مكنتش وديت حد من ولادي للشغل وهما لسه صغيرين، لكن مفيش حل تاني، كدة موت من الجوع وكدة موت من التعب”
المصدر: خط 30 – الـ”رُبع نقل” وسيلة مواصلات الأطفال للعمل.. والموت
تواجه ملايين من الأسر الفقيرة، خاصةَ في الريف والمناطق المهمشة، هذه المفاضلة والمعضلة اليومية، ذلك في ظل غياب الضمانات الاجتماعية، وانسحاب الدولة من دعم الأسر التي تعاني من البطالة أو الدخل المحدود، حيث تتحول أركان البيت جميعها إلى فرص للنجاة. وبينما يُفترض في المجال الخاص أن يكون مساحة أمان، فيتحول إلى مورد لإنتاج عمالة رخيصة تُدفع إلى سوق غير منظم، غير آمن، غير إنساني.. سوق العمل. حيث تدفع الأسر الفتيات والأولاد للعمل في عمر صغير، ليس بدافع الإهمال أو الجهل، بل بدافع الجوع واليأس. وفي أحيان كثيرة، تكون الفتيات أنفسهنّ من يتقدمنّ بالسعي نحو مساعدة الأسرة، في محاولة لفك الحصار اليومي بين نفقات المسكن والإيواء والطعام والعلاج وربما التعليم.
هذه المنظومة الغائبة من شبكات التكافل الحقيقي، بتقديم دعم نقدي فعّال، أو ضمان صحي، أو تعليم مجاني بجودة مقبولة، أو مواصلات آمنة، تدفع بالأطراف الأكثر هشاشة، النساء والأطفال، إلى حافة الموت، حيث تتحمل هذه الأطراف أثمانًا مضاعفة تصل إلى الموت نتيجة غياب سياسة ضمان اجتماعي. بينما تتعرض الفتيات إلى صور مركبة من العنف والاستغلال، ما بين الأعباء المنزلية دخل الأسرة، وأعباء الإنتاج في الحقول أو المصانع، ذلك بدون أية ضمانات والتزامات حماية قانونية بأي صورة من قبل صاحب العمل.
هل يمكننا النجاة؟
بينما غادرنا هؤلاء الضحايا في مشهد شديد المهابة والألم في نعوش خشبية متراصة، كان من المفترض تستقبل فتيات منهنّ نتائجهنّ في الإعدادية وكانت الأخريات تنتظرهنّ أحلامًا وهمومًا أخرى، فلا يمكننا سوى الجزم بأنهنّ ضحايا منظومة تضع الربح والمركزية والطبقة فوق أرواح الجميع، ولا ترى في الفقيرات سوى مجرد قوة عمل زهيدة، لا تستحق حتى على الأقل مسار آمن في الطريق إلى ظروف العمل الشاقة والتعسفية والعودة منه. وبالتالي، فإن أي حديث عن النجاة لن يكون ذا جدوى إلا حين نعيد تعريف معنى “السلامة” و”الحق في الحياة”، لا كمجرد شعارات، بل كأولوية تُرصد لها الموارد، ويُحاسَب على غيابها المسؤولون، ويُصغى فيها لصوت المهمَّشين والمهمشات. ونُعيد السؤال في لحظة من الأسى والغضب والإحباط: كم حادثة نحتاج حتى نٌصدّق أن الحياة في مصر تُقاس بالموقع، والطبقة، والجندر؟