ما بعد الإغاثة: دعوة لتعريف سياسي للعمل الإنساني

 

في 19 أغسطس من كل عام، يتجه انتباه العالم إلى “اليوم العالمي للعمل الإنساني”، الذي أُقر تخليدًا لذكرى 22 من عمال الإغاثة الذين قُتلوا في تفجير فندق ببغداد عام 2003. هذا اليوم هو فرصة لتكريم العاملين\ات الشجعان\ات في هذا المجال، ولكن السياق العالمي الحالي يدعونا إلى إلقاء نظرة عميقة حول مفهوم “العمل الإنساني”. هل يكفي أن يكون اليوم مجرد تكريم، أم أن الأزمات المتصاعدة  على مستوى السياق الإقليمي الخاص بمنطقتنا من بؤر الصراع والحروب تفرض علينا إعادة التفكير في مفهومنا حول العمل الإنساني، وإعادة قراءة لمدى حيادية هذا العمل، وهل حياديته انتصار للعدل أم ظلم متخفي بثوب المساواة والحيادية؟

نكتب هذا المقال لأننا نرى أن المفهوم التقليدي للعمل الإنساني لم يعد قادرًا على استيعاب تعقيدات عالمنا المعاصر. في زمن تتداخل فيه النزاعات المسلحة مع الأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية، وتحكمه علاقات القوى، ويصعد اليمين المحافظ على مستوى العالم. هذا المقال دعوة لإعادة التفكير في مفاهيم الحيادية وعدم الانحياز واستقلالية وإنسانية العمل الإنساني كمبادئ أربعة أساسية يتميز بها هذا العمل، هل هذه المبادئ الأساسية تتحقق بالفعل، هل يمتاز العمل الإنسان الآن وفي ظل السياق الإقليمي الحالي بتلك المبادئ الأربعة؟، ولنفكر سوياً ماهي قوة العمل الإنساني الحقيقية على الأرض في القدرة على تحقيق أهدافه الأساسية من إنقاذ الأرواح وتخفيف المعاناة الإنسانية في ظل مشاهد حرق وتجويع الفلسطينيين\ات واغتصاب وتجويع السودانين\ات؟، هل العمل الإنساني مجرد إغاثة أم هو التزام سياسي وأخلاقي؟

العمل الإنساني — وفقًا للتعريف الأممي المعتمد من الأمم المتحدة ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، وكذلك في إطار مبادئ حركة الصليب الأحمر والهلال الأحمر — هو كل نشاط يهدف إلى إنقاذ الأرواح، تخفيف المعاناة الإنسانية، وصون كرامة الإنسان في أوقات الأزمات أو النزاعات.
هذا العمل يستند إلى أربعة مبادئ أساسية:

  • الإنسانية (Humanity): التصدي لمعاناة الإنسان أينما وُجد، وحماية حياته وصحته، وضمان احترام كرامته.
  • الحياد (Neutrality): الامتناع عن الانحياز لأي طرف في النزاع، أو الدخول في نزاعات سياسية، دينية، أو عرقية.
  • عدم التحيّز (Impartiality): تقديم المساعدة على أساس الحاجة فقط، بلا تمييز جغرافي أو ديني أو سياسي.
  • الاستقلالية (Independence): الحفاظ على استقلال العمل الإنساني بعيدًا عن أي أهداف سياسية أو عسكرية. 

 

المفهوم التقليدي: وهم الحياد

تاريخيًا، سيطرت الهيئات الدولية والأممية على تعريف العمل الإنساني، مقدمةً إياه كفعل محايد، غير منحاز، وغير سياسي وغير متأثر بالسياسة. ركز هذا المفهوم على الإغاثة المباشرة: تقديم الغذاء، والدواء، والمأوى، بمعزل عن الأسباب الجذرية للأزمة. إن هذا الفهم المنفصل عن الواقع السياسي أدى إلى تجاهل السياقات المعقدة التي نشأت فيها الكوارث والأزمات. فبدلاً من ربط الحاجة إلى الإغاثة بالاستعمار، أو النزاعات المسلحة، أو انتهاكات حقوق الإنسان، تم التعامل معها كظواهر مستقلة. هذا الفصل المصطنع خلق انطباعًا بأن العمل الإنساني يمكن أن يظل “نظيفًا” وغير متأثر بالسياسة.

لكن هذا الفصل بين الحياد كمبدأ والحياد كممارسة فعلية على الأرض جعل العمل الإنساني بحد ذاته أداة تُستخدم بيد من يملك القوة والسيطرة. ففي كثير من الأحيان، لا يظل العمل الإنساني خارج دائرة الصراع، بل يتحول إلى أداة ضغط أو حتى سلاح حرب عندما يُمنع عمدًا من الوصول إلى الضحايا، أو يتم توظيفه كورقة مساومة داخل النزاعات. وهكذا يجد الضحايا أنفسهم عالقين داخل دوائر العنف المركبة، حيث يصبح العمل الإنساني جزءًا من الحلقة المفرغة: (حروب – نزاعات – عمل إنساني – عودة للحروب والنزاعات في أماكن أخرى أو في نفس البقاع).

والأمثلة على ذلك عديدة: من استخدام الغذاء كسلاح أثناء حصار العراق في التسعينات، إلى توظيف المساعدات الإنسانية كورقة ابتزاز في مناطق النزاع كما يحدث اليوم في فلسطين، حيث تُمنع المساعدات عن المدنيين وتُستهدف في بعض الأحيان، مما يحوّل “الحياد” من مبدأ لحماية الضحايا إلى وسيلة لإطالة أمد الصراع.

بهذا الشكل، لم يعد “الحياد” ضمانة لحماية المستضعفين، بل أداة لإدارة الأزمات بدلًا من مواجهتها جذريًا. كثيرًا ما يُستخدم خطاب الإغاثة لتجنب إدانة الأطراف المسؤولة عن العنف، مما يمنحها شرعية زائفة ويسمح باستمرار الانتهاكات بلا مساءلة. وهنا يصبح السؤال: هل المطلوب هو التمسك بالحياد كما هو، حتى ولو تحول إلى أداة بيد المعتدي؟ أم أن الحاجة الحقيقية تكمن في إعادة تعريف هذا الحياد بشكل يمنع استغلاله ويعيده إلى جوهره: حماية الإنسان أولًا وأخيرًا؟

غزة والسودان: أمثلة حية على انهيار المفهوم

إذا كانت مبادئ مثل الحياد وعدم الإنحياز قد تحولت من أداة لحماية الإنسان إلى وسيلة يستخدمها الأطراف الأكثر قوة لإطالة أمد الحروب والصراعات، فكيف يٌمكننا التمسك بها كما هي، الإجابة ربما نجدها في قراءة المشهد الإنساني الراهن في غزة والسودان، حيث تتجسد مأساة انهيار هذا المفهوم بكل وضوح”.

 لا يمكننا اليوم الحديث عن حيادية وعدم انحياز  العمل الإنساني دون النظر إلى ما يحدث في غزة والسودان؛

في غزة، تتكشّف أمثلة متعدّدة على انهيار منظومات دولية وإنسانية وحقوقية. استُخدمت المساعدات كأداة ممنهجة للإبادة: مُنعت عن الوصول أو حُوصرت، واستُهدِف مدنيون\ات عند نقاط توزيعها، وتعرّضت القطاعات الطبية والدفاع المدني للقصف في انتهاك صارخ لقواعد القانون الدولي الإنساني. وبلغ الأمر إلى حد تصنيف وكالة الأونروا كمنظمة “إرهابية” من قبل أطراف داعمة للاحتلال، لكشفها عن جرائم  وانتهاكات الاحتلال الصهيوني. كما جرى توظيف دخول المساعدات أو منعها كورقة ضغط داخل مسارات التفاوض على وقف الحرب. وإحدى الصور الصادمة لانهيار مبادئ العمل الإنساني الأربعة ما أُعلن عنه حول وجود حبوب “دوائية\مُخدِّرة” تُسبّب هلوَسات وآثارًا نفسية داخل بعض أكياس الطحين في غزة، بما يكشف انعدام الرقابة وتحويل المساعدة من وسيلة إنقاذ إلى أداة إفساد وإيذاء.

هذه الوقائع، وغيرها مما لا يحظى بالتغطية الكافية—ومنها ما يرتبط بإدارة سوق سوداء للمواد الإغاثية—تُثبت أن الاحتلال لا يملك فقط القوّة العسكرية المدعومة دوليًا بما يحول دون مساءلته، بل يملك أيضًا القدرة على التحكم في الممارسة الفعلية لمبادئ العمل الإنساني على الأرض. وزادت الفجوة اتساعًا حين أقدمت بعض الدول الداعمة للاحتلال على وقف التمويل والدعم لمؤسسات ومنظمات أدانت الجرائم المرتكبة في فلسطين ولبنان، بما يحوّل “الحياد” من مبدأ حماية إلى أداة تكميم وإطالة أمد الانتهاكات.

كما قُوبلت محاولات ناشطين\ات كسر الحصار عن غزة عبر سفن مثل “مادلين” و”حنظلة” بالتهديد والاعتقال من قِبل قوات الاحتلال، قبل إطلاق سراح بعضهم\نّ لكونهم\نّ من مواطني\ات دول كبرى؛ ما يكشف كيف يُخضِع ميزان القوى العالمي العمل الإنساني لاعتبارات السياسة الدولية وهيمنتها على بلدان الجنوب العالمي. هنا لا يعود الحياد ضمانة للضحايا، بل غطاء لإدارة الأزمة بدلًا من مواجهتها جذريًا.

وإذا كانت غزة تقدّم صورة لانهيار المبادئ تحت وطأة الاحتلال والدعم الدولي له، فإن السودان يعكس وجهًا آخر للمأساة: كارثة إنسانية تتقاطع مع صراع داخلي مسلّح وتدخلات إقليمية، في ظل تهميش إعلامي وتعقيد ميداني يقيّد الوصول الإنساني ويُفرّغ المبادئ من مضمونها.

في السودان، لا نعيش “أزمة إنسانية” فقط، بل جريمة ممتدة ضد أكثر من نصف السكان تُرتكب على مرأى ومسمع العالم. 30.4 مليون إنسان يحتاجون إلى المساعدة، 24.6 مليون يعانون انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي، وأكثر من 12 مليون مشرّدون قسرًا من بيوتهم. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات في تقرير صادر عن مكتب الشؤون الإنسانية (OCHA)، بل شهادة على عجز منظومة العمل الإنساني، وعلى تواطؤ القوى الدولية والإقليمية التي تبيع السلاح لطرف في النزاع، بينما ترسل في الوقت نفسه صناديق مساعدات ممهورة بشعارات إنسانية فارغة.

لكن الأرقام تخفي ما هو أفظع: أجساد النساء والفتيات التي تحولت إلى ساحات حرب. في قرى بأكملها، يُغتصَب النساء جماعيًا بعد قتل أو اعتقال الرجال، في ممارسة منظمة للعنف الجنسي كسلاح حرب. تشير بيانات أطباء بلا حدود إلى أن بين يناير 2024 ومارس 2025 وحدهما، تلقى 659 ناجيًا وناجية رعاية بعد العنف الجنسي في جنوب دارفور: 94% منهم نساء وأطفال، وثلثهم لم يبلغوا الثامنة عشرة. هذا الرقم لا يعبّر سوى عن قمة جبل الجليد، لأن آلاف الجرائم الأخرى لم توثَّق ولن تُوثَّق. فأي “عمل إنساني” يمكن أن يتحدث عن مبادئ الإنسانية أو الحياد بينما تُترك النساء لنتائج الاغتصاب من حمل قسري أو أمراض قاتلة بلا رعاية أو حماية؟

تحولت مناطق النزاع في السودان إلى مختبر للفشل الدولي: أوبئة، أمراض معدية، كوارث بيئية، عنف جنسي جماعي، ومجاعة مفتوحة، يقابلها غياب فاضح لأي حضور ملموس لمبادئ العمل الإنساني. ما يحدث هناك ليس “نقصًا في الموارد” ولا “صعوبات لوجستية”، بل هو تواطؤ وصمت مقصود يقتل الإنسان مرتين: مرة بالرصاص والجوع والاغتصاب، ومرة ثانية بخذلان العالم الذي يرفع شعار الإنسانية يومًا واحدًا في السنة ثم يطوي المأساة في أدراج النسيان. فكيف يمكن أن نحتفل باليوم العالمي للعمل الإنساني بينما الإنسانية نفسها تُذبح وتٌجوع وتٌغتصب في السودان على مرأى الجميع؟

المقاومة كجزء من العمل الإنساني: 

بالنظر إلى التجربة التاريخية  وما يحدث الآن بغزة والسودان من مآسي وكوارث إنسانية، يؤٌكد أن الاقتصار على الإغاثة المباشرة لم يعد كافيًا، بل أصبح في أحيان كثيرة مجرد إدارة للأزمات بدلًا من إنهائها. هنا يبرز سؤال جوهري: ما هو الدور الحقيقي للعمل الإنساني إذا لم يواجه الجذور السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي صنعت هذه الأزمات؟

في هذا السياق، يصبح العمل المناهض والمقاوم جزءًا لا يتجزأ من جوهر العمل الإنساني. فالأنشطة الحقوقية والمدافعة عن العدالة، تلك التي تفضح الظلم وتقاوم الأنظمة القمعية والاستعمارية والسياسات المدمرة، هي في حقيقتها عمل إنساني بامتياز. إنها لا تقتصر على إطعام الجائع أو مداواة الجريح، بل تسعى إلى تفكيك البنى التي جعلت هؤلاء جائعين\ات وجرحى\ جريحات منذ البداية.

إن تصوير النشاط الحقوقي والمقاوم على أنه “ليس عملًا إنسانيًا” لا يخدم سوى الأطراف الأقوى المتسببة في النزاعات والحروب. هذا الفصل المصطنع بين الإغاثة والمقاومة يشرعن القمع، ويمنح الحكومات والأنظمة الديكتاتورية ذريعة لتجريم المدافعين\ات عن حقوق الإنسان ووصمهم\نّ بأنهم “سياسيون” أو “غير محايدين”.

وعليه، فإن إعادة إدماج فعل المقاومة والعدالة داخل مفهوم العمل الإنساني لا تعني تسييسه بالمعنى الضيق، بل تعني الاعتراف بحقيقته: أن كل عمل يُنكر الجذور السياسية للأزمات هو عمل منقوص. ومن هنا، يصبح من الضروري الانتقال نحو تعريف أكثر وضوحًا وصراحة، تعريف سياسي شامل للعمل الإنساني، يضع مواجهة الاستعمار والأنظمة القمعية في صلب معناه لا في هوامشه.

دعوة لتعريف سياسي للعمل الإنساني
لقد حان الوقت لإعادة تعريف العمل الإنساني بوصفه فعلًا سياسيًا بالضرورة. فالتمسّك بخطاب “الحياد” و”عدم التسييس” لم يعد سوى غطاءٍ يُخفي استخدام المساعدات كأداة للابتزاز والحصار، كما في غزة، أو كسلاحٍ لتثبيت موازين قوى غير عادلة، كما في السودان. إن الإصرار على أن العمل الإنساني يمكن أن يبقى محايدًا هو في جوهره مشاركة في شرعنة هذا الانحراف.

العمل الإنساني الحقيقي لا يقتصر على صور المشاهير أو شحنات الغذاء والدواء، بل يشمل فضح المنظومات التي تنتج الحروب، ومحاسبة من يستثمرون في استمرارها. إنه أيضًا دعم حق الشعوب في المقاومة وتقرير مصيرها، والوقوف إلى جانب النساء والرجال والأطفال الذين يواجهون القمع والاستعمار يوميًا، لا باعتبارهم ضحايا صامتين بل كأصحاب حق وصوت.

في هذا اليوم العالمي، لا يكفي أن نكرّم العاملين الإنسانيين بالتصفيق والاحتفالات. التحدي الحقيقي هو أن نعيد للإنسانية معناها السياسي: أن نقف مع الضحايا لا على مسافة منهم، أن نكسر الصمت عن الأزمات المنسية، وأن نرفض حيادًا صار أداة للظلم والقمع والاغتصاب وغيرها من الجرائم. فالخطر لا يكمن فقط في الدمار والقتل والتجويع، بل في تفريغ الإنسانية من مضمونها، وتحويلها إلى شعار بلا فعل.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *